فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الذين ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تجَارَة}
ثم ندب تعالى المؤمنين وحضهم على الجهاد بهذه التجارة التي بينها، وهي أن يعطي المرء نفسه وماله، ويأخذ ثمنًا جنة الخلد. وقرأ جمهور القراء والناس: {تُنْجِيكُم} بتخفيف النون وكسر الجيم دون شد، وقرأ ابن عامر وحده والحسن والأعرج وابن أبي إسحاق: {تُنَجِّيكم} بفتح النون وشد الجيم، وقوله تعالى: {تؤمنون} لفظه الخبر ومعناه الأمر أي آمنوا، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: {أليم آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا}، وقوله: {تؤمنون} فعل مرفوع تقديره ذلك أنه تؤمنون، وقال الأخفش: هو عطف بيان على {تجارة}، قال المبرد: هو بمعنى آمنوا على الأمر ولذلك جاء {يغفر} مجزومًا، وقوله تعالى: {ذلكم} أشار إلى الجهاد والإيمان، و{خير} هنا يحتمل أن يكون للتفضيل، فالمعنى من كل عمل، ويحتمل أن يكون إخبارًا، أن هذا خير في ذاته ونفسه، وانجزم قوله: {يغفر} على الجواب للأمر المقدر في {تؤمنون}، أو على ما يتضمنه قوله: {هل أدلكم} من الحض والأمر وإلى نحو هذا ذهب الفراء، وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قرأ: {يغفلكم} بإدغام الراء في اللام ولا يجيز ذلك سيبويه وقوله تعالى: {ومساكن} عطف على {جنات}، وطيب المساكن سعتها وجمالها، وقيل طيبها المعرفة بدوام أمرها، وهذا هو الصحيح، وأي طيب مع الفناء والموت.
قوله تعالى: {وأخرى} قال الأخفش هي في موضع خفض على {تجارة} [الصف: 10]، وهذا قول قلق، قد رد عليه ناس، واحتج له آخرون، والصحيح ضعفه، لأن هذه {الأخرى} ليست مما دل عليه إنما هي مما أعطى ثمنًا وجزاء على الإيمان والجهاد بالنفس والمال، وقال الفراء: {وأخرى} في موضع رفع، وقال قوم: إن {أخرى}، في موضع نصب بإضمار فعل، كأنه قال: {يغفر ذنوبكم ويدخلكم جنات} [الصف: 12] ويمنحكم أخرى، وهي النصر والفتح القريب، وقرأ ابن أبي عبلة {نصرًا من الله وفتحًا}، بالنصب فيهما، ووصفها تعالى بأن النفوس تحبها من حيث هي عاجلة في الدنيا، وقد وكلت النفس لحب العاجل، ففي هذا تحريض، ثم قواه تعالى بقوله: {وبشر المؤمنين} وهذه الألفاظ في غاية الإيجاز، وبراعة المعنى، ثم ندب تعالى المؤمنين إلى النصرة، ووضع لهم هذا الاسم، وإن كان العرف قد خص به الأوس والخزرج، وسماهم الله تعالى به، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والأعرج وعيسى: {أنصارًا}، بتنوين الأنصار، وقرأ الباقون والحسن والجحدري {أنصارَ الله}، بالإضافة، وفي حرف عبد الله: {أنتم أنصار الله}، ثم ضرب تعالى لهم المثل بقوم بادروا حين دعوا، وهم {الحواريون}: خلصان الأنبياء، سموا بذلك لأنه ردد اختبارهم وتصفيتهم، وكذلك رد تنخيل الحواري: فاللفظتان في الحور، وقيل: {الحَواريون} سموا بذلك لبياض ثيابهم، وكانوا غسالين، نصروا عيسى، واستعمل اسمهم حتى قيل للناصر العاضد حواري، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وحواريي الزبير»، وافتراق طوائف بني إسرائيل هو في أمر عيسى عليه السلام، قال قتادة: والطائفة الكافرة ثلاث فرق: اليعقوبية: وهم قالوا هو الله، والإسرائيلية: وهم قالوا ابن الله، والنسطورية: وهم قالوا هو إله، وأمه إله والله ثالثهما، تعالى الله عن أقوالهم علوًا كبيرًا.
وقوله تعالى: {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم} قيل ذلك قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد فترة من رفع عيسى عليه السلام، رد الله تعالى الكرة لمن آمن به، فغلبوا الكافرين الذين قتلوا صاحبه الذي ألقي عليه الشبه، وقيل ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم، أصبح المؤمن بعيسى ظاهرًا لإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لا يؤمن أحد حق الإيمان بعيسى، إلا وفي ضمن ذلك الإيمان بمحمد لأنه بشر به، وحرض عليه، وقيل كان المؤمنون به قديمًا {ظاهرين} بالحجة، وإن كانوا مفرقين في البلاد، مغلوبين في ظاهر الحياة الدنيا، وقرأ مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن: {فأيَدنا} مخففة الياء ممدودة الألف.
نجز تفسير سورة الصف ولله الحمد كثيرًا. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{يا أيها الذين ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وقرئ تنجِّيكُم بالتشديدِ.
وقولهُ تعالى: {تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون في سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ}
استئنافٌ وقعَ جوابًا عما نشأَ مما قبله كأنَّهم قالوا كيفَ نعملُ أو ماذَا نصنعُ فقيلَ تؤمنونَ بالله إلخ. وهو خبرٌ في مَعْنى الأمرِ جيءَ بهِ للإيذانِ بوجوبِ الامتثالِ فكأنه قد وقعَ فأخبرَ بوقوعِهِ ويؤيدُهُ قراءة من قرأ {ءَامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وجاهدوا} وقرئ {تُؤمِنُوا} و{تُجاهِدُوا} على إضمارِ لامِ الأمرِ {ذلكم} إشارةٌ إلى ما ذكرَ من الإيمانِ والجهادِ بقسميه وما فيه من معنى البعدِ لما مرَّ غيرَ مرةٍ {خَيْرٌ لَّكُمْ} على الإطلاقِ، أو منْ أموالِكُم وأنفسِكُم {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي أنْ كنتُم من أهلِ العلمِ فإنَّ الجهلةَ لا يعتدُّ بأفعالِهِم، أو إنْ كنتُم تعلمونَ أنَّه خيرٌ لكُم حينئذٍ لأنكُم إذَا علمتُم ذلكَ واعتقدتُموه أحببتُم الإيمانَ والجهادَ فوقَ ما تحبونَ أنفسَكُم وأموالَكُم فتُخلِصونَ وتفلحُونَ {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} جوابٌ للأمرِ المدلولِ عليه بلفظ الخبرِ، أو لشرطٍ أو استفهامٍ دلَّ عليهِ الكلامُ، تقديرُهُ أنْ تؤمنُوا وتُجاهِدوا أو هَلْ تقبلُونَ أن أدلكُم يغفرْ لكُمْ، وجعلُه جوابًا لهَلْ أدلكُم بعيدٌ لأنَّ مجردَ الدلالةِ لا يوجبُ المغفرةَ {وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ومساكن طَيّبَةً في جنات عَدْنٍ ذَلِكَ} أي ما ذكرَ من المغفرةِ وإدخالِ الجناتِ الموصوفةِ بما ذكرَ من الأوصاف الجليلةِ {الفوز العظيم} الذي لا فوزَ وراءَهُ {وأخرى} ولكُم إلى هذه النعمِ العظيمةِ نعمةٌ أُخرى عاجلةٌ {تُحِبُّونَهَا} وترغبونَ فيهَا، وفيهِ تعريضٌ بأنهم يؤثرونَ العاجلَ على الآجلِ، وقيلَ أُخرى منصوبةٌ بإضمارِ يعطكُمْ، أو تحبونَ، أو مبتدأٌ خبرُهُ {نَصْرٌ مّن الله} وهو عَلى الأولِ بدلٌ، أو بيانٌ، وعلى تقديرِ النصبِ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي عاجلٌ، عطفٌ على نصرٌ على الوجوهِ المذكورةِ. وقرئ {نصرًا} و{فتحًا قريبًا} على الاختصاصِ، أو على المصدرِ أيْ تُنصرونَ نصرًا ويُفتحُ لكم فَتْحًا، أو عَلى البدليةِ من {أُخرى} على تقدير نصبِهَا، أي يعطكُم نعمةً أُخرى نصرًا وفتحًا {وَبَشّرِ المؤمنين} عطفٌ على محذوفٍ مثل {قُل يا أيُّها الذينَ آمنُوا} و{بشرْ}، وعلى {تؤمنونَ} فإنَّه في معنى آمِنُوا كأنَّه قيلَ آمِنُوا وجاهِدُوا أيُّها المؤمنونَ وبشرْهُم يا أيُّها الرسولُ بما وعدتَهُم على ذلكَ عاجلًا وآجلًا.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار الله}
وقُرِئَ {أنصارًا لله} بلاَ إضافةٍ لأن المَعْنَى كونُوا بعضَ أنصارِ الله. وقرئ {كونُوا أنتُم أنصارَ الله} {كَمَا قال عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أنصارى إِلَى الله} أي مَنْ جُندي متوجهًا إلى نصرة الله كما يقتضيهِ قولهُ تعالى: {قال الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله} والإضافةُ الأُولى إضافةُ أحدِ المتشاركينِ إلى الآخرِ لما بينهُما من الاختصاصِ، والثانيةُ إضافةُ الفاعلِ إلى المفعولِ، والتشبيهُ باعتبارِ المَعْنَى أي كونُوا أنصارَ الله كما كانَ الحواريونَ أنصارَهُ حينَ قال لهُم عيسى مَن أنصارِي إلى الله أو قُل لَهُم كونُوا كما قال عيسى للحواريينَ. والحواريونَ أصفياؤُه وهم أولُ من آمنَ به وكانوا اثني عشرَ رجلًا {فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إسرائيل} أي بعِيسَى وأطاعُوه فيما أمرَهُم به من نصرة الدين {وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} أُخرى به وقاتلوهم {فَأَيَّدْنَا الذين ءامَنُواْ على عَدُوِّهِمْ} أي قوَّيناهُم بالحجة أو بالسيفِ وذلكَ بعد رفعِ عيسى عليهِ السلام {فَأَصْبَحُواْ ظاهرين} غالبينَ. اهـ.
وقال الألوسي:
{يَا أَيُّهَا الذين ءَامَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ الله} أي نصرة دينه سبحانه وعونة رسوله عليه الصلاة والسلام.
وقرأ الأعرج، وعيسى، وأبو عمرو والحرميان {أنصارًا لله} بالتنوين وهو للتبعيض فالمعنى كونوا بعض أنصاره عز وجل.
وقرأ ابن مسعود على ما في (الكشف) {كونوا أنتم أنصار الله}.
وفي موضح الأهوازي والكواشي {أنتم} دون {كونوا} {كَمَا قال عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ للحواريان مَنْ أنصارى إلَى الله} أي من جندي متوجهًا إلى نصرة الله تعالى ليطابق قوله سبحانه: {قال الْحَوَاريُّونَ نَحْن أَنْصَارُ الله} وقيل: {إلى} بمعنى مع و{نحن أنصار الله} بتقدير نحن أنصار نبي الله فيحصل التطابق، والأول أولى، والإضافة في {أنصاري} إضافة أحد المتشاركين إلى الآخر لأنهما لما اشتركا في نصرة الله عز وجل كان بينهما ملابسة تصحح إضافة أحدهما للآخر والإضافة في {أنصار الله} إضافة الفاعل إلى المفعول والتشبيه باعتبار المعنى إذ المراد قل لهم ذلك كما قال عيسى، وقال أبو حيان: هو على معنى قلنا لكم كما قال عيسى.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تبارك وتعالى: {سَبَّحَ للَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}
وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا بعدما فروا يوم أحد: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى، وأفضل لفعلناه، فنزل: {لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}.
ويقال: قالوا ذلك قبل يوم أحد، فابتلوا بذلك وفروا، فنزل تيسيرًا لهم بترك الوفاء، فقال: {لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}.
{كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله}، يعني: عظم بغضًا عند الله {أَن تَقولواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ}، يعني: يصفون بمنزلة الصف في الصلاة وملتزمة بعضهم في بعض، لا يتأخر أحدهم عن صاحبه بمنزلة البنيان الذي بني بالرصاص؛ ويقال: {كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ} أي: متفقي الكلمة بعضهم على بعض على عدوهم، فلا يخالف بعضهم بعضًا.
وروي في الخبر: أنه كان يوم مؤتة وكان عبد الله بن رواحة أحد الأمراء الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداهم: يا أهل المجلس الذين وعدتم ربكم قولكم، ثم مشى فقاتل حتى قتل.
قوله تعالى: {وَإِذْ قال موسى} وقد قال موسى {لِقَوْمِهِ يا قوم لَّم تُؤْذُونَنِي} بالتكذيب، وذلك أنهم كذبوه وقالوا: إنه آدر، ويقال: إنه حين مات هارون، ويقال: إنه قال لقومه الكفار: لم تؤذونني بالتكذيب والشتم؟ {وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُواْ} يعني: مالوا عن الحق وعدلوا عنه.
{أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} يعني: خذلهم عن الهدى فثبتوا على اليهودية.
{والله لاَ يَهْدِي} يعني: لا يرشد إلى دينه {القوم الفاسقين}، يعني: العاصين المكذبين، الذين لا يرغبون في الحق.
{وَإِذْ قال عِيسَى ابن مَرْيَمَ} يعني: وقد قال عيسى ابن مريم {يا بني إسرائيل إِنّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم}، يعني: أرسلني الله تعالى إليكم، لأدعوكم إلى الإسلام.
{مُّصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة} يعني: أقرأ عليكم الإنجيل موافقًا للتوراة في التوحيد وفي بعض الشرائع، {وَمُبَشّرًا بِرَسُولٍ} يعني: أبشركم برسول الله {يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ}.
وروى ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يَا رَسُولَ الله أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ.
فقال: «أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ وَرَأَتْ أُمِّي رُؤْيَاهَا حِينَ حَمَلَتْ بِي أنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ بُصْرَى فِي أرْضِ الشَّامِ».
{فَلَمَّا جَاءهُم بالبينات}، يعني: جاءهم عيسى بالبينات التي كان يريهم من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.
{قالواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} يعني: بينًا ظاهرًا.
قرأ حمزة والكسائي {ساحر} بالألف، والباقون {ساحر} بغير ألف.
فمن قرأ {ساحر} فهو فاعل، ومن قرأ {ساحر} فهو نعت الفعل.
ثم قال عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ} يعني: من أشد في كفره {مِمَّنِ افترى عَلَى الله} يعني: اختلق على الله {الكذب} وهم اليهود.
{وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام} يعني: إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} يعني: لا يرشدهم.
ويقال: لا يرحمهم ما داموا على كفرهم.
ثم قال عز وجل: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} يعني: ليبطلوا دين الله بقولهم: {والله مُتِمُّ نُورِهِ} يعني: مظهر توحيده وكتابه، {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} يعني: وإن كره اليهود والنصارى.
قرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر، وعاصم في رواية حفص: {والله مُتِمُّ نُورِهِ} على معنى الإضافة، والباقون {مُّتُّمْ} بالتنوين {نُورِهِ} بالنصب.
فمتم فاعل ونصب نوره، لأنه مفعول به.
ثم قال عز وجل: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} يعني: بالتوحيد {وَدِينِ الحق} يعني: الشهادة لا إله إلا الله.
{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} يعني: على الأديان كلها.
قال مقاتل: وقد فعل، ويقال: إنه يكون في آخر الزمان، لا يبقى أحد إلا مسلم أو ذمة للمسلم.
{وَلَوْ كَرِهَ المشركون} يعني: وإن كرهوا ذلك.
ثم قال عز وجل: {المشركون يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، يعني: من عذاب دائم.
قرأ ابن عامر {تُنجِيكُم} بالتشديد، والباقون بالتخفيف، وهما لغتان.
أنجاه ونجاه بمعنى واحد.
ثم بيَّن لهم تلك التجارة، فقال عز وجل: {تُؤْمِنُونَ بالله} يعني: تصدقون بتوحيد الله {وَرَسُولُهُ} يعني: وتصدقون برسوله، وبماء جاء به من عنده.
{وتجاهدون في سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ}، فقدم ذكر المال، لأن الإنسان ربما يضر بماله ما لا يضر بنفسه، ولأنه إذا كان له مال، فإنه يؤخذ به النفس ليغزو.
{ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} يعني: التصديق والجهاد خير لكم من تركهما.
{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} يعني: تعلمون ثواب الله تعالى، ويقال: يعلمون يعني: يصدقون.
ثم بين ثواب ذلك العمل.
فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} يعني: إن فعلتم ذلك العمل، يغفر لكم ذنوبكم.
{وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ومساكن طَيّبَةً} يعني: يدخلكم منازل الجنة {في جنات عَدْنٍ ذَلِكَ الفوز العظيم} يعني: النجاة الوافرة.
ثم قال عز وجل: {وأخرى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن الله} يعني: تجارة أخرى تحبونها {نَصْرٌ مّن الله} يعني: ولكم سوى الجنة أيضًا عدة أخرى في الدنيا تحبونها، ويقال: معناه ونجاة أخرى تحبونها {نَصْرٌ مّن الله} يعني: هي النصرة من الله تعالى على عدوكم، {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} يعني: ظفرًا سريعًا عاجلًا في الدنيا والجنة في الآخرة.
ثم قال: {وَبَشّرِ المؤمنين} يعني: بشرهم بالجنة.
ثم قال عز وجل: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار الله}، قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو {أَنصَار الِلَّهِ} بالتنوين، والباقون {أَنْصَارُ الله} بالإضافة، ومعناهما واحد يعني: كونوا أعوان الله بالسيف على أعدائه، ومعناه: انصروا الله، وانصروا دين الله، وانصروا محمدًا صلى الله عليه وسلم، كما نصر الحواريون عيسى ابن مريم.
وهو قوله تعالى: {كَمَا قال عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أنصارى إِلَى الله} يعني: من أعواني إلى الله، ويقال: إنما سموا الحواريون لبياض ثيابهم، ويقال: كانوا قصارين، ويقال: خلصاؤه وصفوته.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الزُّبَيْرُ ابنُ عِمَّتِي وَحَوَارِيَّ مِنْ أُمَّتِي».
وتأويل الحواريين في اللغة، الذين أخلصوا وتبرؤوا من كل عيب؛ وكذلك الدقيق الحواري، لأنه ينتقى من لباب البرّ.
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إنما سموا الحواريين لبياض ثيابهم، وكانوا صيادين.
وروى عبد الرزاق، عن معمر قال: تلا قتادة: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار الله} قال: وقد كان ذلك بحمد الله جاءه السبعون، فبايعوه عند العقبة فنصروه وآووه، حتى أظهر الله دينه.
{قال الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله} يعني: نحن أعوانك مع الله، {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار} يعني: بعيسى عليه السلام ويقال: فآمنت طائفة من بني إسرائيل بمحمد صلى الله عليه وسلم، {وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} يعني: جماعة منهم.
{يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار} يعني: قوينا الذين آمنوا على عدوهم من الكفار، {فَأَصْبَحُواْ ظاهرين}، فصاروا غالبين بالنصرة، والحجة؛ والله أعلم بالصواب. اهـ.